الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
ففي قوله -تعالى-: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ . حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾ ﴿التكاثر:1-2﴾، داءٌ ودواؤه، داءٌ عضال، أصل الجحود والعصيان: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾، الالتهاء والانشغال بالدنيا وملذاتها، والمكاثرة فيها من حطامها الفاني عن طاعة الله وعبادته والاستعداد للآخرة الذي من أجله خلق الإنسان.
ودواؤه في الاتعاظ والاعتبار بقوله -تعالى-: ﴿حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾، فالإنسان لابد له من الموت، وهو قريب جدًا، وإذا مات الإنسان ترك وراءه ما شغله عن الاستعداد له من العبادة والطاعة، ولم يجد في قبره إلا تحسره وندمه؛ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ﴿يَقُولُ الْعَبْدُ مَالِي مَالِي -على سبيل المباهاة والمكاثرة- إِنَّمَا لَهُ مِنْ مَالِهِ ثَلاَثٌ مَا أَكَلَ فَأَفْنَى أَوْ لَبِسَ فَأَبْلَى أَوْ أَعْطَى فَاقْتَنَى وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ ذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ﴾ ﴿رواه مسلم﴾.
وعن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: ﴿أَتَيْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَقْرَأُ: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾ قَالَ: يَقُولُ ابْنُ آدَمَ مَالِي مَالِي، وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلاَّ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ﴾ ﴿رواه مسلم﴾.
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: ﴿يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلاَثَةٌ فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى وَاحِدٌ يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ﴾ ﴿متفق عليه﴾.
يقول الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-:
"قال العلماء: ينبغي لمن أراد علاج قلبه وانقياده بسلاسل القهر إلى طاعة ربه، أن يكثر من ذكر هاذم اللذات، ومفرق الجماعات، ومُوتم البنين والبنات، ويواظب على مشاهدة المحتضرين، وزيارة قبور أموات المسلمين.
فهذه ثلاثة أمور، ينبغي لمن قسا قلبه، ولزمه ذنبه، أن يستعين بها على دواء دائه، ويستصرخ بها على فتن الشيطان وأعوانه، فإن انتفع بالإكثار من ذكر الموت، وانجلت به قساوة قلبه فذاك، وإن عظم عليه ران قلبه، واستحكمت فيه دواعي الذنب، فإن مشاهدة المحتضرين، وزيارة قبور أموات المسلمين، تبلغ في دفع ذلك ما لا يبلغه الأول، لأن ذكر الموت إخبار للقلب بما إليه المصير، وقائم له مقام التخويف والتحذير.
وفي مشاهدة من احتضر، وزيارة قبر من مات من المسلمين معاينة ومشاهدة، فلذلك كان أبلغ من الأول، قال -صلى الله عليه وسلم-: ﴿لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ﴾ ﴿رواه أحمد، وصححه الألباني﴾.
فأما الاعتبار بحال المحتضرين، فغير ممكن في كل الأوقات، وقد لا يتفق لمن أراد علاج قلبه في ساعة من الساعات.
وأما زيارة القبور فوجودها أسرع، والانتفاع بها أليق وأجدر؛ فينبغي لمن عزم على الزيارة، أن يتأدب بآدابها، ويحضر قلبه في إتيانها، ولا يكون حظه منها التطواف على الأجداث فقط...
بل يقصد بزيارته وجه الله -تعالى-، وإصلاح فساد قلبه، ونفع الميت بالدعاء... ثم يعتبر بمن صار تحت التراب، وانقطع عن الأهل والأحباب، بعد أن قاد الجيوش والعساكر، ونافس الأصحاب والعشائر، وجمع الأموال والذخائر، فجاءه الموت في وقت لم يحتسبه، وهول لم يرتقبه.
فليتأمل الزائر حال من مضى من إخوانه، ودرج من أقرانه؛ الذين بلغوا الآمال، وجمعوا الأموال، كيف انقطعت آمالهم، ولم تغن عنهم أموالهم، ومحا التراب محاسن وجوههم، وافترقت في القبور أجزاؤهم، وترمل من بعدهم نساؤهم، وشمل ذل اليتم أولادهم، واقتسم غيرهم طريفهم وتلادهم، وليتذكر ترددهم في المآرب، وحرصهم على نيل المطالب، وانخداعهم لمواتاة الأسباب، وركونهم إلى الصحة والشباب.
وليعلم أن ميله إلى اللهو واللعب كميلهم، وغفلته عما بين يديه من الموت الفظيع، والهلاك السريع كغفلتهم، وأنه لا بد صائر إلى مصيرهم، وليحضر بقلبه ذكر من كان مترددًا في أغراضه، وكيف تهدمت رجلاه، وكان يتلذذ بالنظر إلى ما حوله وقد سالت عيناه، ويصول ببلاغته وقد أكل الدود لسانه، ويضحك لمواتاة دهره وقد أبلى التراب أسنانه، وليتحقق أن حاله كحاله، ومآله كمآله.
وعند هذا التذكر والاعتبار تزول عنه جميع الأغيار الدنيوية، ويقبل على الأعمال الأخروية؛ فيزهد في دنياه، ويقبل على طاعة مولاه، ويلين قلبه، وتخشع جوارحه" انتهى من تفسيره بتصرف:15/129.
- ويُضيف إلى ذلك التهديد والوعيد الذي توعد الله -تعالى- به هؤلاء المكاثرين والمنشغلين بما هم تاركونه عما خلقوا من أجله؛ قال الله -تعالى-: ﴿كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ . ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ ﴿التكاثر:3-4﴾، وعيد بعد وعيد، وزجر وتهديد، أي: "ارتدعوا أيها الناس، وانزجروا عن الاشتغال بما لا ينفع ولا يفيد، فسوف تعلمون عاقبة جهلكم وتفريطكم في جنب الله -أي حقه-، وانشغالكم بالفاني عن الباقي" صفوة التفاسير:3-598.
- ﴿كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ﴾ ﴿التكاثر:5﴾.
"أي لو تعلمون ما بين أيديكم من الجزاء، علم الأمر اليقين لكان ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والتحسر على فوات العمر العزيز في التكاثر، والذهول عن الحق به، واليقين بمعنى المتيقن" تفسير القاسمي 9/470.
- ﴿لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾ ﴿التكاثر:6﴾.
"وعيد آخر، وهو تفسير الوعيد المتقدم، وهو قوله: ﴿كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ . ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾، تَوعَّدَهم بهذا الحال، وهي رؤية النار التي إذا زفرت زفرة خَرَّ كل ملك مقرب، ونبي مرسل على ركبتيه، من المهابة والعظمة ومعاينة الأهوال، على ما جاء به الأثر المروي في ذلك" تفسير ابن كثير:4/545.
- ويُضيف إلى ذلك أيضًا أنه مسئول أمام الله -تعالى-، عما أعطاه الله -تعالى- من نعم من صحة وفراغ، ومال وزوجة وولد، وشبع ورواء، ونوم وأمن، وكل لذة من لذات الدنيا هل أدى شكرها أو لا؟
- قال الله -تعالى-: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ ﴿التكاثر:8﴾.
"أي: عن النعيم الذي ألهاكم التكاثر به، والتفاخر في الدنيا، ماذا عملتم فيه؟ ومن أين وصلتم إليه؟ وفيم أصبتموه؟ وماذا علمتم به؟ ويدخل في ذلك ما أنعم الله عليهم من السمع والبصر وصحة البدن، كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال ابن جرير: لم يخصص في خبره -تعالى- نوعًا من النعيم دون نوع، بل عمَّ فهو سائلهم عن جميع النعم؛ ولذا قال مجاهد: أي عن كل شيء من لذة الدنيا، وقال قتادة: إن الله سائل كل عبد عما استودعه من نعمه وحقه" انتهى بتصرف من تفسير القاسمي:9/471.
وقال السعدي -رحمه الله-:
"﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾: الذي تنعمتم به في دار الدنيا، هل قمتم بشكره، وأديتم حق الله فيه، ولم تستعينوا به، على معاصيه، فينعمكم نعيمًا أعلى منه وأفضل، أم اغتررتم به، ولم تقوموا بشكره؟؟ بل ربما استعنتم به على معاصي الله فيعاقبكم على ذلك، قال -تعالى-: ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾ ﴿الأحقاف:20﴾" انتهى من التفسير 934.
جعلنا الله -تعالى- وإياكم ممن انشغل به -عز وجل- عما سواه، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.