رن الموبايل , فخطا بتثاقل من السرير إلى المكتب ليرى من المزعج الذي يهاتفه في وقت كهذا , رقم غريب
” آلو…”
= إزيك ؟
_ مين معايا
= أنا رضوى
_ أهلا يا رضوى
= إنت بعتـّ لي من حوالي ساعة رسالة ” كلمني شكرا “
_ أنا آسف أكيد كتبت الرقم غلط , أنا كنت باعتها لواحد صاحبي
= طيب أصل أنا إتخضيت فكرت فيه حد عايزني أكلمه
_ أنا آسف جدا
= إنت متأكد إنك مش محتاج حاجة
_ لا شكرا ربنا يكرمك
= لا فعلا لو عايز تتكلم أو تقول أي حاجة مفيش مشاكل
_ هو أنا عايز أنام دلوقتي بصراحة
= إنت لو محرج صدقني مفـ….
أغلق الخط و ضبط الموبايل على silent و عاد إلى السرير…
2
في طريق العودة إلى الكلية رن الموبايل , كان مرهقا بالنسبة له أن يرد على أي أحد في الميكروباص , أغلق الخط دون ان يخرج الموبايل من جيبه , و مباشرة بعد أن دخل البيت رن الموبايل مرة أخرى , بدا له نفس الرقم الغريب الذي أيقظه بالأمس , يختلف عن رقم صديقه ” رامي ” في رقم واحد أخير , لم يكن متأكدا لذلك رد سريعا
“آلو…”
= إنت إزاي تقفل في وشي إمبارح ؟
_ إنتي مين !
= أنا رضوى ….
_ أيوه يعني رضوى مين يعني , أنا مش فاهم إيه اللي بيحصل ده مقلب ولا إيه بالظبط
= اللي بيحصل إنك إمبارح و بدون أي مبررات سمحت لنفسك تبعت لي رسالة حوالي الساعة 12 بالليل و لما أكلمك تقفل الخط في وشي
_ انا قلت لك إنها إتبعتت غلط !
= طيب هو ده غلطي أنا , رسالة من مجهول وصلتني و حسيت إنه ممكن يكون حد عايز مساعدة أو أي حاجة فإتصلت أشوفه…تقوم تقفل الخط في وشي
فكر أنه لا داعي أن يخبرها أنها كانت مزعجة إلى أقصى حد بالأمس , فقط سينهي الموضوع بهدوء
_ خلاص أنا آسف فعلا , حقك عليا
= ينفع كده ..و أنا اللي قعدت حوالي ساعتين ما بين الرسالة ما وصلتني لحد ما كلمتك عمالة أفكر لحسن يكون حد محتاج يتكلم أو أي حاجة و مش لاقي حد جنبه فبعت الرسالة دي لأي رقم ؟…تقوم تعمل معايا كده !
قالت عبارتها الأخيرة بنبرة معاتبة كأنها تعاتب طفلا صغيرا شد شعرها بقسوة خلال اللعب , لم يعد لديه أدنى شك أنه مقلب من أحد الأصدقاء..
أغلق الخط دون أن يرد , فكر أيهم قد يفكر في شئ كهذا…
3
رن الموبايل حوالي خمس مرات . نفس الرقم , رضوى تبدو مثابرة إلى حد بعيد , أغلق الخط في كل مرة وهو يفكر أنها ستكون الأخيرة و سيمل السخيف الذي يمزح معه من اللعبة المملة …
أرسلت له رسالة : ” مش من حقك تعمل معايا كده ….لو سمحت رد عليا ” , لم يرد , أرسلت له رسالة أخرى : ” أشكرك…أنا فعلا بشكرك على ذوقك ” , بعدها لم تكرر رضوى المحاولة , لإسبوعين تقريبا لم يصله منها أي رسائل أو مكالمات و كل يوم كان يخمن أن أحدهم سيهاتفه ضاحكا و يحكي له تفاصيل المقلب كاملا ..
لكن الموبايل رن مرة أخرى حين كان في مسجد الكلية يستعد لإرتداء حذائه و الخروج , لا يدري لم تحديدا شعر أنها رضوى رغم أنه ليس نفس الرقم الذي تتصل منه كل مرة , “ألو…”
= إزيك ؟
_ رضوى ؟
= أيوه , إيه ده عرفت صوتي إزاي ؟
_ من الآخر يا رضوى مين اللي مديلك رقمي عشان تعملي معايا المقلب البايخ ده ؟
= إنت إزاي تكلمني كده !…أنا ما أخدتش رقمك من حد
_ أمال إيه الإزعاج بتاعك ده إنتي عايزة إيه ؟
صرخ فيها بقوة و هي يبتعد عن المسجد بخطوات سريعة …
لم تجب رضوى…سكتت , واصل بصوت جامد :
لو إتصلتي بيا تاني أنا حبلغ عن رقمك إنتي فاهمة ..؟
= إنت ليه بتعمل معايا كده
كانت رضوى تبكي ..
كان ذلك واضحا له تماما , نهنهة خفيضة بدأت تعلو فيسمعها بوضوح و يتجمد في مكانه …
لا زال يقلّب إمكانية المقلب بنسبة كبيرة , إلا أن البكاء الذي يصله الآن من الموبايل يبدو حقيقيا جدا..
_ يا رضوى طيب أنا المفروض أعمل إيه ؟
= متعملش حاجة..أنا مش عايزة منك حاجة…أنا الحق عليا فكرتك محتاج حد تحكيله بس محرج تقول …مفيش حد بيبعت رسالة فيها كلمني شكرا بالغلط …الحق عليا أنا فكرت أوفر عليك الإحراج و أكلمك عشان تحكي و تقول اللي إنت عايزه ..ولما إنت مش عايز تتكلم مع حد…إزاي تدي لنفسك الحق إنك تتدخل في خصوصياتي و تبعت لي على موبايلي رسالة… و بعدين تقولي إنك مش عايز تتكلم …أنا بقالي إسبوعين من آخر مرة كلمتك و ما ردتش عليا وأنا حاسة بالذنب إني سبتك لوحدك و ما أصرّتش إنك تحكي…فكرتك محتاج حد بجد…بس فعلا أنا اللي غلطانة..
_…….!!
= أنا مش حكلمك تاني , أنا مسافرة أصلا السعودية بكرة…حروح أقعد مع بابا و ماما هناك بعد ما خلصت الأجازة…وإنت حر لو مش عايز تتكلم ..بس أنا كنت عايزة أساعدك عشان عارفة قد إيه وحش إنك متلاقيش حد تحكيله …هناك في الرياض بقعد حوالي 11 شهر مش بتكلم مع حد…محدش بيسألني عن أي حاجة ولا عايز يسمع أي حاجة…بابا و ماما مشغولين في الشغل و مفيش جيران ولا أصحاب ولا أي حد من قرايبنا بيتصل يطمن عليا…ببقى حموت من الوحدة…و بابا مش راضي يجيب لي كمبيوتر هناك عشان مدخلش على الشات عشان حرام..
حلفتله والله مش حكلم ولاد بس هو خايف..الموبايل اللي بكلمك منه ده موبايل تيتة …موبايلي مفيهوش رصيد و كلها ساعة و ترجع تيتة و مش حكلمك تاني عشان حكون سافرت..
كان يسمع بإنطباع ثابت ثم ارتبك عندما انتهت فجأة من الكلام بشكل متواصل و سريع لدقيقة كاملة..
_ إنتي في سنة كام يا رضوى ؟
= أنا في ثالثة ثانوي ..
بدأ صوتها يهدأ تدريجيا…
بدرس هناك في الرياض و بنزل هنا أقعد مع تيتة في أجازة نص السنة
_طيب يا رضوى ..أنا عايز أقولك بس إن الرسالة فعلا وصلت بالغلط…بجد ..أنا مكنتش عايز أتكلم مع أي حد أنا بس كتبت رقم موبايل صاحبي غلط فوصلت ليكي…أشكرك على إهتمامك و آسف تاني.
استسلم تماما لكي يصل إلى نهاية واضحة , حتى ولو كانت قهقهة صاخبة تعلن أنه أخيرا وقع بكامل إرادته في المقلب
لكن رضوى ردت بهدوء :
= ولا يهمك أنا بس كنت عايزاك تعرف يعني إيه حد يفضل قاعد إسبوعين حاسس بالذنب عشان متصلش تاني يشوفك عايز تتكلم ولا لأ…إنت مش متخيل يعني إيه حد يبعت لك رسالة بيقولك فيها كلمني شكرا…
أنا من ساعة ما نزلت مصر ما وصلتنيش ولا رسالة من أي حد غير ماما …مبكلمش حتى بابا عشان مشغول..يقوم لما حد يبعت لي رسالة عايز يتكلم أقوم بسهولة كده أسيبه لوحده ؟
خمّن أنها أكيد لا تعرف خاصية ” كلمني ..شكرا “
_ يا رضوى دول مجرد كلمتين بلا أي معنى الناس بتبعتها لما ميكونش معاها رصيد…شركة المحمول بتسمح لكل واحد إنه…
= مفيش كلام مالوش معنى…أي حد بيبعت رسالة أكيد بيقصد اللي كاتبه فيها
رضوى لديها قاموس ضخم على ما يبدو , تأكد من الورطة التي تسببت فيها خدمة تافهة تتيح لكل مستخدم إرسال ثلاث رسائل من الـ ” كلمني …شكرا ” يوميا بعد إدخال الكود و رقم المفترض أنه الحضن الكبير الذي ستـُـفرغ في أذنه كل أحزانك و آلامك الشخصية كما تفترض رضوى…
لا يصدق أن هناك أحدا يهتم بهذه الدرجة بـ ” كلمني ..شكرا ” من رقم غريب !…يا رضوى أنتِ لو استوقفتي الناس في الطريق و قلتي لأحدهم بكل رجاء ” كلمني…شكرا ” سيتركك و يمضي دون أدني إحساس بوخز الضمير..
عماذا تتحدثين بالضبط يا رضوى ؟
_ عندك حق فعلا…أنا آسف و أوعدك إنها مش حتحصل تاني..
= يعني إنت بجد مش عايز تحكي و محرج تقول ؟
_ لا يا رضوى…
= إنت إسمك إيه طيب ؟
_ زياد
= إنت في كلية يا زياد؟..شكلك كبير
_ أنا في كلية طب..
= ماشي يا دكتور زياد…أنا نفسي أدخل كلية طب…بس مش عارفة حجيب مجموعها ولا لأ …عندنا هنا نظام الثانوية العامة مختلف…هنا المواد بتـ…
_ رضوى معلش أنا مضطر أقفل عشان عندي محاضرة…
= أوك يا زياد و بجد لو إحتجت تحكي في أي وقت ماتتردش تتصل
_ أكيد يا رضوى
= سلام يا زياد
_ سلام
لم يصدق أن المكالمة انتهت , كان يبتسم في دهشة وهو يقترب من المدرج , فاته تقريبا ربع ساعة من المحاضرة , ذهنه كان مشغولا كليا بصوت طفلة الثالث الثانوي الرقيق الذي يثرثر دون توقف .., بعد المحاضرة لم يصدق ,رن الموبايل.., رقم رضوى !…الصبر يا رب !
_ آلو أيوه يا رضوى خير ؟
= زياد…
_ أيوه يا رضوى أكيد انا زياد
= أنا شحنت مخصوص عشان أقولك شكرا
_ العفو يا رضوى على إيه
= لا بجد أنا بشكرك عشان إنت اهتميت تسمعني و مقفتلش في وشي
أحسّ بالذنب..
_ لا يا رضوى متقوليش كده
= زياد
_ أيوه..
= أنا حسافر بكرة…
كان ينتظر ان تكمل , لم يكن متوقعا أن تتوقف مبكرا هكذا ..
_ تروحي و تيجي بالسلامة
= خلي بالك من نفسك …أوك ؟
_ حاضر !
= ولو إحتجت أي حاجة…أي حاجة أي حاجة بجد…ما تترددش تكلمني…و أنا حبـ..
_ رضوى أنا حبقى مشغول جدا الفترة الجاية و أكيد لو إحتجت أي حاجة حقولك …أشكرك…تروحي و تيجي بالسلامة..مع السلامة يا رضوى
= مع السلامة يا زيا…
أغلق الخط ثم أغلق الموبايل ثم ألقاه بسرعة في جيبه و هو يزفر في قوة…ينعل أبو ” كلمني شكرا “…
4
بعدها بأيام لم تتصل رضوى , زياد كان يضحك كلما يتذكر المكالمات الطويلة, التي تنطلق فيها رضوى بصوتها الطفولي الرفيع في سرعة و تتابع…بابا ..ماما…تيتة…إنت متعرفش يعني إيه حد يبعت لك “كلمني شكرا ” .., يفكر أنها تحتاج أن تتعلم الكثير , لا أحد بالتأكيد يمكنه أن يواصل الحياة بهذا الشكل..ستتعبين كثيرا يا رضوى .
أيام و نسي الأمر كله…إلا إنه استيقظ بغتة ليلة الخميس على صوت رسالة وصلت حالا على الموبايل..قام بتثاقل إلى المكتب…كان رقما غريبا….رقم دولي…و عبارة وحيدة مكتوبة بالفرانكو آراب :
Kalemny..shokran .